فصل: باب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الدَّعَاء

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وقَوْلِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ‏)‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى فِى الآخِرَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كُلُّ نَبِىٍّ سَأَلَ سُؤْلا، أَوْ قَالَ‏:‏ لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ، قَدْ دَعَا بِهَا، فَاسْتُجِيبَت، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أمر الله تعالى عباده بالدعاء وضمن لهم الإجابة فى قوله‏:‏ ‏(‏ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ فإن قيل‏:‏ فقد علمت تأويل من تأوّل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ ادعونى بطاعتكم إياى وعبادتكم لى‏:‏ أستجب لكم فى الذى التمستم منى بعبادتكم إياى‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فالجواب‏:‏ أن من طاعة العبد ربه دعاءه إياه ورغبته فى حاجته إليه دون ما سواه، والمخلص له العبادة المتضرع إليه فى حاجته موقن أن قضاءها بيده متعرض لنجحها منه، ومن عبادته إياه تضرعه إليه فيها، وقد روى وكيع عن سفيان، عن صالح مولى التوءمة، عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏من لم يدع الله غضب الله عليه‏)‏‏.‏

وروى شعبة، عن منصور، عن ذَرِّ، عن يُسَيْعٍ الحضرمى، عن النعمان بن بشير عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الدعاء هو العبادة‏)‏ وقرأ‏:‏ ‏(‏ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ فسمى الدعاء عبادة، وروى الأوزاعى، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله يحب الملحين فى الدعاء‏)‏‏.‏

فإن ظن ظان أن قول أبى الدرداء يكفى من الدعاء مع العمل ما يكفى من الملح‏.‏

وقيل لسفيان‏:‏ أدع الله‏؟‏ فقال‏:‏ إن ترك الذنوب هو الدعاء‏.‏

مخالف لما جاء من فضل الإلحاح فى الدعاء والأمر بالدعاء والضراعة إلى الله، فقد ظن خطئًا‏.‏

وذلك أن الذى جبلت عليه النفوس أن من طلب حاجةً ممن هو عليه ساخط لأمر تقدّم منه استوجب به سخطه أنه بالحرمان أولى ممن هو عنه راضٍ لطاعته له واجتنابه سخطه، فإذا علم من عبده المطيع له حاجةً إليه كفاه اليسير من الدعاء‏.‏

فإن قيل‏:‏ هل من علامة يعلم بها إجابة الله العبد فى دعائه‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ قد جاء فى ذلك غير شىء، منها ما روى شهر بن حوشب‏:‏ ‏(‏أن أمّ الدرداء قالت له‏:‏ يا شهر إن شفق المؤمن فى قلبه كسعفة أحرقتها فى النار، ثم قالت‏:‏ يا شهر ألا تجد القشعريرة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ فادع الله فإن الدعاء يستجاب عند ذلك‏)‏‏.‏

وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير ‏(‏أنه سمع أبا رهم السماعى يقول‏:‏ ما يشعر به عند الدعاء والعطاس‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فإن قيل‏:‏ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لكل نبى دعوة مستجابة‏)‏‏.‏

وقد قال الله تعالى للناس كافة‏:‏ ‏(‏ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ فعم كل الدعاء، وهذا وعد من الله لعباده وهو لا يخلف الميعاد، وإنما خصّ كل نبى بدعوة واحدة مستجابة، فأين فضل درجة النبوة‏؟‏ قيل‏:‏ ليس الأمر كما ظننت، ولا يدل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ على أن كل دعاء مستجاب لداعيه، وقد قال قتادة‏:‏ إنما يستجاب من الدعاء ما وافق القدر‏.‏

وليس قوله‏:‏ ‏(‏لكل نبى دعوة مستجابة‏)‏‏.‏

مما يدل أنه لا يستجاب للأنبياء غير دعوة واحدة، وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أجيبت دعوته فى المشركين حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف، ودعا على صناديد قريش المعاندين له، فقتلوا يوم بدر، وغير ذلك مما يكثر إحصاؤه مما أجيب من دعائه، بل لم يبلغنا أنه رُد من دعائه صلى الله عليه وسلم إلا سؤاله أن لا يجعل الله بأس أمته بينهم خاصةً، لما سبق فى أم الكتاب من كون ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏لكل نبى دعوة مستجابة‏)‏‏.‏

يريد أن لكل نبى عند الله من رفيع الدرجة وكرامة المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحبّ من الأمور ويبلغه أمنيته، فيدعو فى ذلك وهو عالم بإجابة الله له على ما ثبت عنه‏:‏ ‏(‏أن جبريل قال له‏:‏ يا محمد، إن أردت أن يحول الله لك جبال تهامة ذهبًا فعل‏)‏‏.‏

وخيَّره بين أن يكون نبيًا عبدًا وبين أن يكون نبيًا ملكًا، فاختار الآخرة على الدنيا، وليست هذه الدرجة لأحد من الناس، وإنما أمروا بالدعاء راجين الإجابة غير قاطعين عليها؛ ليقفوا تحت الرجاء والخوف‏.‏

وفي هذا الحديث بيان فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء عليهم السلام حين آثر أمته بما خصّه الله به من إجابة الدعوة بالشفاعة لهم، ولم يجعل ذلك فى خاصّة نفسه وأهل بيته فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء، وصلى الله عليه أطيب الصلاة، فهو كما وصفه الله‏:‏ ‏(‏بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏

باب فضل الاسْتِغْفَارِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 10، 11‏]‏‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏ الآية‏.‏

- فيه‏:‏ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، أن رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ‏:‏ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت‏)‏ يعنى‏:‏ العهد الذى أخذه الله على عباده فى أصل خلقهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ فأقروا له فى أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوحدانية، والوعد‏:‏ هو ما وعدهم تعالى أنه من مات لا يشرك منهم بالله شيئًا وأدّى ما افترض الله عليه أن يدخل الجنة، فينبغى لكل مؤمن أن يدعو الله تعالى أن يميته على ذلك العهد، وأن يتوفاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى من وفى بذلك اقتداءً بالنبى صلى الله عليه وسلم فى دعائه بذلك، ومثل ذلك سأل الأنبياء عليهم السلام الله تعالى فى دعائهم، فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ وقال يوسف‏:‏ ‏{‏تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏ وقال نبينا‏:‏ ‏(‏وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون‏)‏‏.‏

وأعلم أمته بقوله‏:‏ ‏(‏أنا على عهدك ووعدك ما استطعت‏)‏‏.‏

إن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات والشكر على النعم، إذ نعمه تعالى كثيرة ولا يحاط بها، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 20‏]‏ فمن يقدر مع هذا أن يؤدى شكر النعم الظاهرة، فكيف الباطنة‏؟‏ لكن قد رفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم وتجاوز عما فوق ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يمتثل هذا المعنى فى مبايعته للمؤمنين، فيقول‏:‏ أبايعكم على السمع والطاعة فيما استطعتم‏.‏

فإن قيل‏:‏ أين لفظ الاستغفار فى هذا الدعاء، وقد سماه النبى صلى الله عليه وسلم سيد الاستغفار‏؟‏ قيل‏:‏ الاستغفار فى لسان العرب هو طلب المغفرة من الله تعالى وسؤاله غفران الذنوب السالفة والاعتراف بها، وكل دعاء كان فى هذا المعنى فهو استغفار، مع أن فى الحديث لفظ الاستغفار وهو قوله‏:‏ ‏(‏فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏من قالها موقنًا بها‏)‏ يعنى مخلصًا من قلبه ومصدقًا بثوابها فهو من أهل الجنة، وهذا كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبى‏)‏ قال صاحب الأفعال‏:‏ باء بالذنب‏:‏ أقرّ‏.‏

باب اسْتِغْفَارِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهِ إِنِّى لأسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أولى العباد بالاجتهاد فى العبادة الأنبياء، عليهم السلام، لما حباهم الله به من معرفته، فهم دائبون فى شكر ربهم معترفون له بالتقصير لا يدلون عليه بالأعمال، مستكينون خاشعون، روى عن مكحول عن أبى هريرة قال‏:‏ ‏(‏ما رأيت أحدًا أكثر استغفارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

وقال مكحول‏:‏ ما رأيت أكثر استغفارًا من أبى هريرة‏.‏

وكان مكحول كثير الاستغفار‏.‏

وقال أنس‏:‏ أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة‏.‏

وروى أبو إسحاق عن مجاهد، عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول‏:‏ أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه مائة مرة قبل أن يقوم‏)‏ وروى عن حذيفة أنه شكا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ذرب لسانه على أهله، فقال‏:‏ أين أنت يا حذيفة من الممحاة‏؟‏ قال‏:‏ وما هى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الاستغفار، إنى لأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة وقت الإفك‏:‏ ‏(‏إن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه‏)‏ فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار، وقالت عائشة‏:‏ ‏(‏كان النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت يكثر من قوله سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فسألته عن ذلك، فقال‏:‏ أخبرنى ربى أنى سأرى علامةً فى أمتى، فإذا رأيتها أكثرت من ذلك، فقد رأيتها‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقال أبو أيوب الأنصارى‏:‏ ما من مسلم يقول‏:‏ ‏(‏أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات، إلا غفرت ذنوبه، وإن كانت أكثر من زبد البحر، وإن كان فر من الزحف‏)‏ وكان ابن عمر كثيرًا ما يقول‏:‏ الحمد لله وأستغفر الله، فقيل له فى ذلك، فقال‏:‏ إنما هى نعمة فأحمد الله عليها أو خطيئة فأستغفر الله منها‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ رأيت أبى فى النوم كأنه فى بستان فقلت له‏:‏ أى عملك وجدت أفضل‏؟‏ قال‏:‏ الاستغفار‏.‏

وروى أبو عثمان عن سلمان قال‏:‏ إذا كان العبد يدعو الله فى الرخاء، فنزل به البلاء فدعا، قالت الملائكة‏:‏ صوت معروف من امرئ ضعيف‏.‏

فيشفعون له، وإذا كان لا يكثر من الدعاء فى الرخاء، فنزل به البلاء فدعا، فقالت الملائكة‏:‏ صوت منكر من امرئ ضعيف، فلا يشفعون له‏.‏

باب ‏{‏تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏

وقَالَ قَتَادَةُ‏:‏ ‏{‏تَوْبَةً نَصُوحًا‏}‏، الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ‏.‏

- فيه‏:‏ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنَا ابْن مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ‏:‏ بِهِ، هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ، بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ‏:‏ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِى، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أَضَلَّهُ فِى أَرْضِ فَلاةٍ‏)‏‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ التوبة النصوحة‏:‏ الصادقة‏.‏

وقيل‏:‏ إنما سمىّ الله التوبة نصوحًا؛ لأن العبد ينصح فيه نفسه ويقيها النار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏، وأصل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَوْبَةً نَّصُوحًا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ توبةً منصوحًا فيها، إلا أن أخبر عنها باسم الفاعل للنصح على ما ذكره سيبويه عن الخليل فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 21‏]‏ أى ذات رضا، وذكر أمثلة لهذا كثيرة عن العرب كقولهم‏:‏ ليل نائم، وهم ناصب، أى‏:‏ ينام فيه وينصب، فكذلك‏)‏ تَوْبَةً نَّصُوحًا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ أى‏:‏ ينصح فيها، والتوبة فرض من الله تعالى على كل من علم من نفسه ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏‏.‏

فكل مُذنب فهو عند مواقعة الذنب جاهل وإن كان عالمًا، ومن تاب قبل الموت تاب من قريب، وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الندم توبة‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنّة‏.‏

قيل‏:‏ كيف ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ يكون نصب عينيه تائبًا منه فارا حتى يدخل الجنة‏)‏‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ التوبةُ نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرهم من الأمم، وكانت توبة بنى إسرائيل القتل‏.‏

وقال الزهرى‏:‏ لما قيل لهم‏:‏ ‏(‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏ قاموا صفين وقتل بعضهم بعضًا، حتى قيل لهم‏:‏ كفوا‏.‏

فكانت لهم شهادة للمقتول وتوبةً للحى، وإنما رفع الله عنهم القتل لما أعطوا المجهود فى قتل أنفسهم، فما أنعم الله على هذه الأمة نعمةً بعد الإسلام هى أفضل من التوبة‏.‏

إن الرجل ليفنى عمره أو ما أفنى منه فى المعاصى والآثام، ثم يندم على ذلك ويقلع عنه ويقوم وهو حبيب الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏التائب من الذنب كمن لا ذنب له‏)‏‏.‏

وقال ابن المبارك‏:‏ حقيقة التوبة لها ست علامات‏:‏ أولها‏:‏ الندم على ما مضى‏.‏

والثانية‏:‏ العزم على أن لا تعود‏.‏

والثالثة‏:‏ أن تعمد إلى كل فرض ضيعته فتؤديه‏.‏

والرابعة‏:‏ أن تعمد إلى مظالم العباد، فتؤدّى إلى كل ذى حق حقه‏.‏

والخامسة‏:‏ أن تعمد إلى البدن الذى ربيتهُ بالسحت والحرام فتذيبه بالهموم والأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم، ثم تنشىء بينهما لحمًا طيبًا إن هو نشأ‏.‏

والسادسة‏:‏ أن تذيق البدن ألم الطاعة كما أذقته لذة المعصية‏.‏

وقال ميمون ابن مهران عن ابن عباس‏:‏ كم تائب يرد يوم القيامة يظن أنه تائب وليس بتائب، لأنه لم يحكم أبواب التوبة‏.‏

وقال عبد الله بن سُميط‏:‏ ما دام قلب العبد مصراّ على ذنبٍ واحد، فعمله معلق فى الهواء، فإن تاب من ذلك الذنب وإلا بقىّ عمله أبدًا معلقًا‏.‏

وروى الأصيلى عن أبى القاسم يعقوب بن محمد بن صالح البصرى إملاءً من حفظه قال‏:‏ حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال‏:‏ حدثنا عمران بن عبد الرحيم الأصبهانى، حدثنا خليفة، عن عبد الوهاب، عن محمد بن زياد، عن على بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيّب، عن أبى الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا تاب عبدى إلىّ نَسَّيت جوارحه، ونَسَّيت البقاع، ونَسّيت حافظيه حتى لا يشهدوا عليه‏)‏‏.‏

وأما الحديث الذى حدث ابن مسعود عن نفسه فقوله‏:‏ ‏(‏إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، والفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه‏)‏‏.‏

فينبغى لمن أراد أن يكون من جملة المؤمنين أن يخشى ذنوبه، ويعظم خوفه منها، ولا يأمن عقاب الله عليها فيستصغرها، فإن الله تعالى يعذّب على القليل وله الحجة البالغة فى ذلك‏.‏

وأمّا فرح الله بتوبة العبد فقال أبو بكر بن فورك‏:‏ الفرح فى كلام العرب بمعنى السرور، من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ أى سروا بها، فهذا المعنى لا يليق بالله تعالى لأنه يقتضى جواز الحاجة عليه ونيل المنفعة، والفرح بمعنى البطر والأشر ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏‏.‏

والوجه الثالث من الفرح الذى يكون بمعنى الرضا من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 53‏]‏ أى راضون، ولما كان من بُشِّر بالشىء قد رضيه، قيل‏:‏ إنه قد فرح به على معنى أنه به راض، وعلى هذا تتأول الآثار؛ لأن البطر والسرور لا يليقان بالله عز وجل‏.‏

باب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الأيْمَنِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ حَتَّى يَجِىءَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ‏.‏

هذه هيئة من الهيئات كان يفعلها صلى الله عليه وسلم والله أعلم للأرفق به فى الاضطجاع، أو كان يفعلها لفضل الميامن على المياسر، وهذا كله مباح ليس من باب الوجوب‏.‏

باب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا

- فيه‏:‏ الْبَرَاء،، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، وَقُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وجهِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ‏)‏‏.‏

وقد بين ابن عباس معنى المبيت على الطهارة، ذكر عبد الرزاق عن أبى بكر بن عياش قال‏:‏ أخبرنى أبو يحيى أنه سمع مجاهدًا يقول‏:‏ قال لى ابن عباس‏:‏ لا تنامن إلا على وضوء، فإن الروح تبعث على ما قبضت عليه‏.‏

وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإن مُتّ متّ على الفطرة‏)‏‏.‏

وذكر عن الأعمش أنه بال، ثم تيمّم بالجدار، فقيل له فى ذلك، فقال‏:‏ أخاف أن يدركنى الموت قبل أن أتوضأ‏.‏

وعن الحكم بن عتيبة أنه سأله رجل‏:‏ أينام الرجل على غير وضوء‏؟‏ قال‏:‏ يكره ذلك وإنا لنفعله‏.‏

وروى معمر عن سعيد الجريرى عن أبى السليل عن أبى توبة العجلى قال‏:‏ من أوى إلى فراشه طاهرًا أو نام ذاكرًا كان فراشه مسجدًا، وكان فى صلاة أو ذكر حتى يستيقظ‏.‏

وقال طاوس‏:‏ من بات على طهرٍ وذكرٍ كان فراشه له مسجدًا حتى يصبح، ومثل هذا لا يدرك بالرأى وإنما يؤخذ بالتوقيف‏.‏

باب مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا‏)‏، وَإِذَا قَامَ قَالَ‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ‏)‏‏.‏

ينشرها‏:‏ يخرجها‏.‏

- وفيه‏:‏ الْبَرَاء، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ، فَقُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَا وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ، مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ‏)‏‏.‏

ذكر الله مستحب عند النوم ليكون الذكر آخر فعله، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واجعلهن آخر ما تقول‏)‏ أى لا تتكلم بعدهن بشىء من أحاديث الدنيا، وليكن هذا الذكر خاتمة عملك، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏فإن مت مت على الفطرة‏)‏ وقد تقدم حديث معمر عن الجريرى فى فضل من بات على ذكر وطهر فى الباب قبل هذا‏.‏

باب وَضْعِ الْيَدِ تَحْتَ الْخَدِّ اليمنى

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا‏)‏، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ‏)‏‏.‏

يحتمل أن يكون وضع النبى صلى الله عليه وسلم يده تحت خدّه عند النوم تذللاً لله عز وجل واستشعارًا لحال الموت، وتمثيله لنفسه لتتأسى أمته بذلك، ولا يأمنوا هجوم الموت عليهم فى حال نومهم، ويكونوا على رقبة من مفاجأته فيتأهبوا له فى يقظتهم وجميع أحوالهم، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم عند نومه‏:‏ ‏(‏اللهم بك أموت وأحيا وإليك النشور‏)‏‏.‏

باب الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ بِاللَّيْلِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى حَاجَتَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ، وَقَدْ أَبْلَغَ، فَصَلَّى فَقُمْتُ، فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّى كُنْتُ أَتَّقِيهِ، فَتَوَضَّأْتُ، فَقَامَ يُصَلِّى، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِى، فَأَدَارَنِى عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلاتُهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَآذَنَهُ بِلالٌ بِالصَّلاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ يَقُولُ فِى دُعَائِهِ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُورًا، وَفِى بَصَرِى نُورًا، وَفِى سَمْعِى نُورًا، وَاجْعَلْ لِى نُورًا‏)‏‏.‏

قَالَ كُرَيْبٌ‏:‏ وَسَبْعٌ فِى التَّابُوتِ، فَلَقِيتُ رَجُلا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، فَحَدَّثَنِى بِهِنَّ، فَذَكَرَ عَصَبِى، وَلَحْمِى، وَدَمِى، وَشَعَرِى، وَبَشَرِى، وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَوْ لا إِلَهَ غَيْرُكَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ كان النبى صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز وجل فى أوقات ليله ونهاره، وعند نومه ويقظته بنوع من الدعاء يصلح لحاله تلك ولوقته ذلك‏.‏

فمنها‏:‏ أوقات كان يدعو فيها إلى ربه تعالى، ويعين له ما يدعو فيه فى أوقات الخلوة، وعند فراغ باله وعلمه بأوقات الغفلة التى ترجى فيها الإجابة، فكان يلح عند ذلك ويجتهد فى دعائه، ألا ترى سؤاله صلى الله عليه وسلم ربه حين انتبه من نومه أن يجعل فى قلبه نورًا، وفى بصره نورًا، وفى سمعه وجميع جوارحه‏؟‏ ومنها‏:‏ أوقات كان يدعو فيها بجوامع الدعاء ويقتصر على المعانى دون تعيين وشرح، فينبغى الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم فى دعائه فى تلك الأوقات، والتأسى به فى كل الأحوال، وقد تقدّم حديث ابن عباس فى باب التهجد والكلام عليه‏.‏

وقول كريب‏:‏ وسبع فى التابوت يعنى‏:‏ أنه أنسى سبع خصال من الحديث على ما يقال لمن لم يحفظ العلم؛ علمه فى التابوت، وعلمه مستودع فى الصحف، وليس كريب القائل‏:‏ فلقيت رجلاً من ولد العباس فحدثنى بهنّ، وإنما قاله سلمة بن كهيل الراوى عن كريب سأل العباس عنهن حين نسيهن كريب فحفظ سلمة منهن خمسًا ونسى أيضًا خصلتين‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد وجدت الخصلتين من رواية داود بن على بن عبد الله بن عباس عن أبيه وهما‏:‏ ‏(‏اللهم اجعل نورًا فى عظامى ونورًا فى قبرى‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فتمطيت كراهية أن يرى أنى كنت أبغيه‏)‏ التمطى‏:‏ التمدد، وأبغيه‏:‏ أرصده، قال الخليل‏:‏ يقال‏:‏ بغيت الشىء أبغيه إذا نظرت إليه ورصدته، وإنما فعل ذلك ابن عباس ليُرىّ النبي عليه السلام أنه كان نائمًا وأنه لم يرصده؛ إذ كل أحدٍ إذا خلا في بيته يأتى من الأفعال ما يحب أن لا يطلع عليه أحد، وإنما حمل ابن عباس على ذلك الحرص على التعليم، ومعرفة حركات النبى صلى الله عليه وسلم فى ليله، وقد تقدّم فى كتاب الصلاة أن أباه العباس كان أوصى لابنه بذلك‏.‏

وفيه‏:‏ الحرص على التعليم والرفق بالعلماء، وترك التعرض إلى ما يعلم أنه يشق عليهم‏.‏

ذكر الطبرى عن معقل بن يسار، عن أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله فكيف المنجا من ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ألا أعلمك شيئًا إذا فعلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره‏.‏

قلت‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ قل‏:‏ اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، تقولها ثلاث مرات‏)‏‏.‏

باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْمَنَامِ

- فيه‏:‏ عَلِىّ‏:‏ أَنَّ فَاطِمَةَ اشَتكَتْ مَا تَلْقَى فِى يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، فَأَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تَجِدْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَ‏:‏ فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ أَقُومُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَكَانَكِ‏)‏ فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ‏؟‏ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا، أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ‏)‏‏.‏

وقال ابْنِ سِيرِينَ‏:‏ التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلاثُونَ‏.‏

وهذا نوع من الذكر عند النوم غير ما جاء فى حديث البراء، وحديث حذيفة والأحاديث الأُخر، وقد يمكن أن يكون النبي عليه السلام يجمع ذلك كله عند نومه، وقد يمكن أن يقتصر منها على بعضها إعلامًا منه لأمته أن ذلك معناه الحض والندب، لا الوجوب والفرض، وفى هذا الحديث حجة لمن فضل الفقر على الغنى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم‏)‏ فعلمهما الذكر، ولو كان الغنى أفضل من الفقر لأعطاهما الخادم وعلمهما الذكر، فلما منعهما الخادم وقصرهما على الذكر خاصةً علم أنه صلى الله عليه وسلم إنما اختار لهما الأفضل عند الله، والله الموفق‏.‏

باب التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَنَامِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِى يَدَيْهِ، وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِى مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ‏)‏‏.‏

وهذه أنواع أخر أيضًا غير ما مرّ من الأحاديث المتقدمة، وفيها استسلام لله وإقرار له بالإحياء والإماتة، وفى حديث عائشة رد قول من زعم أنه لا تجوز الرقى واستعمال العُوذ إلا عند حلول المرض ونزول ما يتعوذ بالله منه، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم نفث فى يديه وقرأ المعوذات ومسح بهما جسده، واستعاذ بذلك من شر ما يحدث عليه فى ليلته مما يتوقعه وهذا من أكبر الرقى، وفي حديث أبي هريرة أدب عظيم علمه النبى أمته، وذلك أمره بنفض فراشه عند النوم خشية أن يأوى إليه بعض الهوام الضارّة فيؤذيه سمها، والله أعلم‏.‏

باب الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا عز وجل كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ‏:‏ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ‏)‏‏.‏

هذا وقت شريف مرغب فيه خصّه الله تعالى بالتنزل فيه، وتفضّل على عباده بإجابة من دعا فيه، وإعطاء من سأله، إذ هو وقت خلوة وغفلة واستغراق فى النوم واستلذاذ به، ومفارقة الدعة واللذة صعب على العباد، لا سيما لأهل الرفاهية فى زمن البرد، ولأهل التعب والنصب فى زمن قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه فى غفران ذنوبه، وفكاك رقبته من النار وسأله التوبة فى هذا الوقت الشاق على خلوة نفسه بلذتها ومفارقة دعتها وسكنها، فذلك دليل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه، فضمنت له الإجابة التى هى مقرونة بالإخلاص وصدق النية فى الدعاء، إذ لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاهٍ‏.‏

وقد أشار النبى صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏(‏والصلاة بالليل والناس نيام‏)‏‏.‏

فلذلك نبّه الله عباده على الدعاء فى هذا الوقت الذى تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا، وعُلقها ليستشعر العبد الجدّ والإخلاص لربه فتقع الإجابة منه تعالى رفقًا من الله بخلقه ورحمةً لهم فله الحمد دائمًا والشكر كثيرًا على ما ألهم إليه عباده من مصالحهم، ودعاهم إليه من منافعهم لا إله إلا هو الكريم الوهاب‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف ترجم باب الدعاء نصف الليل، وذكر فى الحديث أن التنزل فى ثلث الليل الآخر‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ إنما أخذ ذلك من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 2، 3‏]‏، فالترجمة تقوم من دليل القرآن، والحديث يدل على أن وقت الإجابة ثلث الليل إلا أن ذكر النصف فى كتاب الله يدل على تأكيد المحافظة على وقت التنزل قبل دخوله ليأتى أول وقت الإجابة، والعبد مرتقب له مستعد للإنابة فيكون ذلك سببًا للإجابة، وينبغى ألا يمرّ وقت من الليل والنهار إلا أحدث العبد فيه دعاءً وعبادةً لله تعالى‏.‏

باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخَلاءِ

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الخبث والخبائث هو الشيطان الرجيم، روى هذا عن الحسن ومجاهد، وقد جاء معنى أمره صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة عند دخول الخلاء فى حديث رواه معمر عن قتادة، عن النضر بن أنس عن أنس بن مالك أن رسول الله قال‏:‏ ‏(‏إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخلها أحدكم فليقل‏:‏ اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث‏)‏‏.‏

فأخبر فى هذا الحديث أن الحشوش مواطن للشياطين، فلذلك أمر بالاستعاذة عند دخولها، وروى ابن وهب عن حيوة بن شريح، عن أبى عقيل أنه سمع سعيدًا المقبرى يقول‏:‏ إذا دخل الرجل الكنيف لحاجته، ثم ذكر اسم الله كان سترًا بينه وبين الجن، فإذا لم يذكر الله نظر إليه الجن يسخرون ويستهزئون به‏.‏

وروى عن النبى أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا خرج أحدكم من الغائط فليقل‏:‏ الحمد لله الذى أخرج عنى ما يؤذينى وأمسك علىّ ما ينفعنى‏)‏‏.‏

باب مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ

- فيه‏:‏ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ‏)‏، وذكر الحديث ‏(‏مَنْ قَالَهَا حين يُمْسِى، فَمَاتَ دخل الْجَنَّةِ، وَإن قَالَهَا حين يُصْبِحَ، فَمَاتَ من يومه دخل الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ‏:‏ ‏(‏بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا‏)‏، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ‏)‏‏.‏

وَعَنْ أَبِى ذَرّ مثله‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معنى ذكر الله عند الصباح ليكون مفتتح الأعمال وابتداؤها ذكر الله، وكذلك ذكر الله عند النوم ليختم عمله بذكره تعالى، فتكتب الحفظة فى أول صحيفته عملا صالحًا وتختمها بمثله، فيرجى له مغفرة ما بين ذلك من ذنوبه‏.‏

وروى الطبرى من حديث الحسن عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله عز وجل‏:‏ اذكرنى من أول النهار ساعةً، ومن آخره ساعةً أكفيك ما بينهما‏)‏‏.‏

وكان الصالحون من السُّوقة يجعلون أول يومهم وآخره لأمر الآخرة، ووسطه لمعيشة الدنيا، وإنما كانوا يعملون ذلك لترغيبه صلى الله عليه وسلم على الدعاء طرفي النهار، وكان عمر بن الخطاب يأمر التجار فيقول‏:‏ اجعلوا أوّل نهاركم لآخرتكم، وما سوى ذلك لدنياكم، وقد روى عن النبي عليه السلام ما يدل على هذا المعنى، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ يا ابن آدم لا تعجزن عن أربع ركعات أول النهار أكفيك آخره‏)‏‏.‏

باب الدُّعَاءِ فِى الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ أَبُو بَكْر، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى صَلاتِى، قَالَ‏:‏ ‏(‏قُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِى مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِى إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ،‏)‏ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ نْزِلَتْ فِى الدُّعَاءِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مسعود، عَنْ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذكر التشهد، إلى قوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فى حديث أبى بكر من الفقه أن للمصلّى أن يدعو الله فى جميع صلواته بما بدا له من حاجات دنياه وآخرته، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم علم أبا بكر مسألة ربه المغفرة لذنوبه فى صلاته، وذلك من أعظم حاجات العبد إلى ربّه، فكذلك حكم مسألته إياه سائر حاجاته‏.‏

وقد روى عن أبى الدرداء أنه قال‏:‏ إنى لأدعو وأنا ساجد لسبعين أخًا من إخوتى أسمّيهم بأسمائهم وأسماء آبائهم‏.‏

وكان على يقول إذا قال الإمام‏:‏ سمع الله لمن حمده‏:‏ اللهم بحولك وقوتك أقوم وأقعد‏.‏

وكان ابن مسعود يلبى فى سجوده‏.‏

ومعنى لبيك‏:‏ أجبتك يا رب إلى ما دعوتني إليه إجابةً بعد إجابة، وأقمت عندك‏.‏

وقد ذكرت من قال بهذا من الفقهاء فى كتاب الصلاة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى حديث أبى بكر الدليل الواضح على تكذيب مقالة من زعم أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من كان لا خطيئة له ولا جُرم، لأن أهل الإجرام زعموا غير مؤمنين، وزعموا أن كبائر الذنوب وصغائرها كبائر، وذلك أن أبا بكر كان من الصديقين من أهل الإيمان، وقد أمره صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ اللهم إنى ظلمت نفسى ظلمًا كثيرًا فاغفر لي‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن الواجب على العبد أن يكون على حذر من ربّه فى كل أحواله، وإن كان من أهل الاجتهاد فى عبادته فى أقصى غاياته، إذ كان الصديق مع موضعه من الدين لم يسلم مما يحتاج إلى استغفار ربه منه‏.‏

باب الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ ذَاكَ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلا يَأْتِى أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلا مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ، تُسَبِّحُونَ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الْمُغِيرَةِ، أنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ إِذَا سَلَّمَ‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ‏)‏‏.‏

فى حديث هذا الباب الحضّ على التسبيح والتحميد فى أدبار الصلوات، وأن ذلك يوازي فى الفضل إنفاق المال فى طاعة الله لقوله‏:‏ ‏(‏أفلا أخبركما بما تدركون به من كان قبلكم‏)‏‏.‏

وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏وضعت الصلوات فى خير الساعات فاجتهدوا فى الدعاء دبر الصلوات‏)‏‏.‏

قال الطبري‏:‏ حدثنا ابن المثني، وابن بشار، قالا‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت الصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء‏)‏‏.‏

وروى الطبري عن جعفر بن محمد قال‏:‏ الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فقد روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال‏:‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ إنما هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره‏.‏

فأى الأمرين عندك أفضل، ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، أم قراءة القرآن‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن عمرو بن سلمة سأل الأوزاعي عن ذلك، فقال له‏:‏ سَلْ سعيدًا، فسأله فقال‏:‏ بل القرآن‏.‏

فقال الأوزاعى لسعيد‏:‏ إنه ليس بشىء يعدل القرآن، ولكن إنما كان هدى من سلف يذكرون الله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والذى قال الأوزاعي أقرب إلى الصّواب لما روى أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لأن أقعد مع قوم يذكرون الله بعد الفجر إلى طلوع الشمس أحب إلىّ من الدنيا وما فيها، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحبُّ إلىّ من الدنيا وما فيها‏)‏ وقال عبد الله بن عمرو‏:‏ وذكر الله بالغداة والعشى أفضل من حطم السيوف فى سبيل الله وإعطاء المال سحًا‏.‏

وقد تقدم فى باب ما يقول إذا أصبح حديث الحسن عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقول عز وجل‏:‏ ابن آدم اذكرنى من أوّل النهار ساعةً وآخره ساعةً، أكفيك ما بينهما‏)‏‏.‏

وترجم لحديث المغيرة باب‏:‏ لا مانع لما أعطى الله فى كتاب القدر، وسيأتى الكلام هناك إن شاء الله تعالى، واحتج بحديث أبى هريرة من فضل الغنى على الفقر، وسيأتى الكلام فيه فى كتاب الرقائق إن شاء الله‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَلِّ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏

وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ نَفْسِهِ وَقَالَ أَبُو مُوسَى‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَلَمَة، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ‏:‏ أَيَا عَامِرُ، لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ هُنَيْاتِكَ، فَنَزَلَ يَحْدُو لهِمْ‏:‏ تَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذَا السَّائِقُ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ عَامِرُ بْنُ الأكْوَعِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏يَرْحَمُهُ اللَّهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ‏)‏، فَأَتَاهُ أَبِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَرِير، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَصَكَّ فِى صَدْرِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَنَسٌ خَادِمُكَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، سَمِعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَن‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قَسَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَصَبَرَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى هذه الأحاديث كلها من الفقه دعاء المسلم لأخيه دون نفسه كما ترجم، وقد جاء عن النبي عليه السلام أن دعاء المرء لأخيه مجاب‏.‏

روى الطبرى قال‏:‏ حدثنا أبو هشام الرفاعى قال‏:‏ حدثنا ابن فضيل، حدثنا أبى، عن طلحة بن عبد الله بن كريز، عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال له الملك‏:‏ ولك مثل ذلك‏)‏‏.‏

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خمس دعوات مستجابات‏:‏ دعوة المظلوم حتى ينتصر، ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يقفل، ودعوة المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه‏)‏‏.‏

روى عن بعض السلف‏:‏ أنه قال‏:‏ إذا دعا لأخيه فليبدأ بنفسه‏.‏

قال سعيد بن يسار‏:‏ ذكرت رجلاً عند ابن عمر فترحمت عليه، فلهز فى صدرى وقال لى‏:‏ ابدأ بنفسك، وقال إبراهيم‏:‏ كان يقال‏:‏ إذا دعوت فابدأ بنفسك، فإنك لا تدرى أى دعاء يستجاب لك‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّجْعِ فِى الدُّعَاءِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أنَّهُ قَالَ لعكرمة‏:‏ حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلاثَ مِرَارٍ، وَلا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِى الْقَوْمَ، وَهُمْ فِى حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ، فَحَدِّثْهُمْ، وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّى عَهِدْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما نهى عن السجع فى الدعاء، والله أعلم؛ لأن طلب السجع فيه تكلف ومشقة، وذلك مانع من الخشوع وإخلاص التضرع لله تعالى وقد جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏إن الله لا يقبل من قلب غافلٍ لاهٍ‏)‏‏.‏

وطالب السجع فى دعائه همته في ‏[‏تزويج‏]‏‏.‏

الكلام وسجعه، ومن شغل فكره وكد خاطره بتكلفه، فقلبه عن الخشوع غافل لاه لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد وجد فى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم نحو ما نهى عنه ابن عباس، وهو قوله‏:‏ ‏(‏اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب‏)‏‏.‏

وقال فى تعويذ حسن أو حسين‏:‏ ‏(‏أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة‏)‏‏.‏

وإنما أراد مُلمّة فللمقاربة بين الألفاظ واتباع الكلمة أخواتها فى الوزن قال‏:‏ ‏(‏لامة‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ هذا يدل أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن السجع إنما أراد به من يتكلف السجع فى حين دعائه، فيمنعه من الخشوع كما قدمنا، وأما إذا تكلم به طبعًا من غير مؤنة ولا تكلف، أو حفظه قبل وقت دعائه مسجوعًا فلا يدخل فى النهى عنه؛ لأنه لا فرق حينئذ بين المسجوع وغيره؛ لأنه لا يتكلف صنعته وقت الدعاء فلا يمنعه ذلك من إخلاص الدعاء والخشوع والله أعلم‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أنه يكره الإفراط فى الأعمال الصالحة خوف الملل لها والانقطاع عنها، وكذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم يفعل، كان يتخول أصحابه بالموعظة فى الأيام كراهة السآمة عليهم، وقال‏:‏ ‏(‏اكفلوا من العمل ما تطيقون، فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا ينبغى أن يحدث بشىء من كان فى حديث حتى يفرغ منه‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا ينبغى نشر الحكمة والعلم ولا الحديث بهما من لا يحرص على سماعهما وتعلمهما، فمتى حدث به من يشتهيه ويحرص عليه، كان أحرى أن ينتفع به ويحسن موقعه عنده، ومتى حدث به من لا يشتهيه لم يحسن موقعه عنده، وكان فى ذلك إذلال للعلم وحط له، والله تعالى قد رفع قدره حين جعله سببًا إلى معرفة توحيده وصفاته تعالى، والى علم دينه وما تعبَّد به خلقه‏.‏

باب لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لا مُكْرِهَ لَهُ

- فيه‏:‏ أَنَس، أنّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ، فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ‏)‏، وَلا يَقُولَنَّ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِى، فَإِنَّهُ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه دليل أنه ينبغى للمؤمن أن يجتهد فى الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة ولا يقنط من رحمه الله؛ لأنه يدعو كريمًا، فبذلك تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى شعبة عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏إذا دعا أحدكم فلا يقولن‏:‏ اللهم إن شئت فأعطنى، ولكن ليعظم رغبته، فإن الله تعالى لا يتعاظم عليه شىء أعطاه، قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ أنا عند ظن عبدى بى، وأنا معه إذا دعاني، فإن تقرب منى شبرًا تقربت منه ذراعًا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

وروى أبو عاصم عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبي عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏لا يموتن أحد منكم إلا وهو حسن الظن بالله تعالى‏)‏‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ والله الذى لا إله إلا هو ما أعطى عبد مؤمن قط شيئًا خير من حسن الظن بالله‏.‏

والله الذى لا إله إلا هو لا يحسن عبد الظن إلا أعطاه الله ظنه، وذلك أن الخير فى يديه‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس‏)‏ قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 14، 15‏]‏‏.‏

باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ‏:‏ دَعَوْتُ، فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِى‏)‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ما لم يعجل‏)‏ يعنى يسأم الدعاء ويتركه فيكون كالمان بدعائه، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان يستحق به الإجابة، فيصير كالمبخل لربّ كريم، لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء، ولا تضره الذنوب‏.‏

وروى ابن وهب، عن معاوية، عن ربيعة بن يزيد، عن أبى إدريس الخولانى، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل‏.‏

قيل‏:‏ يا رسول الله وما الاستعجال‏؟‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ قد دعوت وقد دعوت، فلم يستجب لى، فيستحسر عند ذلك أو يدع الدعاء‏)‏‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏مرةً يقول‏:‏ لقد دعوت فما استجاب، أو ما أغنيت شيئًا‏)‏‏.‏

وقالت عائشة فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏ما لم يعجل أو يقنط‏)‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنما يعجل العبد إذا كان غرضه من الدعاء نيل ما سأل، وإذا لم ينل ما يريد ثقل عليه الدعاء، ويجب أن يكون غرض العبد من الدعاء هو الدعاء لله، والسؤال منه، والافتقار إليه أبدًا، ولا يفارق سمة العبودية وعلامة الرق، والانقياد للأمر والنهي والاستسلام لربّه تعالى بالذّلة والخشوع، فإن الله تعالى يحب الإلحاح فى الدعاء‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ لأنا أشد خشيةً أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة، وذلك أن الله تعالى يقول‏:‏ ‏(‏ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ فقد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة وهو لا يخلف الميعاد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث، إما أن يستجاب له، وإمّا أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه‏)‏‏.‏

ففى هذا الحديث دليل أن الدعاء مجاب إما معجلاً وإما مؤخرًا‏.‏

وقد روى عن قتادة أنه قال‏:‏ إنما يجاب من الدعاء ما وافق القدر؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد دعا ألا يجعل الله بأس أمته بينهم فمنعها، لما سبق فى علم الله وقدره من كون الاختلاف والبأس بينهم‏.‏

باب رَفْعِ الأيْدِى فِى الدُّعَاءِ

وَقَالَ أَبُو مُوسَى‏:‏ دَعَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ‏.‏

وقال ابْنُ عُمَرَ‏:‏ رَفَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ اختلف الناس فى رفع اليدين فى الدعاء فى غير الصلاة، فكان بعضهم يختار إذا دعا الله تعالى فى حاجته أن يشير بأصبعه السباّبة، ويقول ذلك الإخلاص ويكره رفع اليدين‏.‏

ذكر من قال ذلك‏:‏ روى شعبة وعبثر وخالد عن حصين، عن عمارة بن روبية‏:‏ ‏(‏أنه رأى بشر بن مروان رافعًا يديه على المنبر، فسبَّه وقال‏:‏ لقد رأيت رسول الله لا يزيد على هذا يعنى أن يشير بالسبّابة‏)‏‏.‏

وروى سعيد عن قتادة قال‏:‏ رأى ابن عمر قومًا رفعوا أيديهم، فقال‏:‏ من يتناول هؤلاء فوالله لو كانوا على رأس أطول جبل ما ازدادوا من الله قربًا‏.‏

وكرهه جبير بن مطعم، ورأى شريح رجلاً رافعًا يديه يدعو، فقال‏:‏ من تتناول بها، لا أمّ لك‏.‏

وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم‏:‏ قد رفعوها قطعها الله‏.‏

وكره ابن المسيب رفع الأيدى والصّوت فى الدعاء، وكان قتادة يشير بأصبعيه ولا يرفع يديه، ورأى سعيد بن جبير رجلاً يدعو رافعًا يديه فقال‏:‏ ليس فى ديننا تكفير‏.‏

واعتلوا بحديث عمارة بن روبية المتقدّم‏.‏

وكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما، ثم يختلفون فى صفة رفعهما، حذو صدره بطونهما إلى وجهه، روى ذلك عن ابن عمر، وقال ابن عباس إذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء‏.‏

وكان على بن أبى طالب يدعو بباطن كفيه، وعن أنس مثله، واحتجوا بما رواه صالح بن كيسان عن محمد بن كعب القرظى، عن ابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا سألتم الله تعالى فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، وامسحوا بها وجوهكم‏)‏‏.‏

وكان آخرون يختارون رفع أيديهم إلى وجوههم، روى ذلك عن ابن عمر وابن الزبير، واعتلوا بما رواه حماد بن سلمة عن بشر بن حرب قال‏:‏ سمعت أبا سعيد الخدرى يقول‏:‏ ‏(‏وقف رسول الله بعرفة، فجعل يدعو، وجعل ظهر كفيه مما يلى وجهه ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه‏)‏‏.‏

وكان آخرون يختارون رفع أيديهم حتى يحاذوا بها وجوههم وظهورها مما يلى وجوههم، وروى يحيى بن سعيد عن القاسم قال‏:‏ رأيت ابن عمرو بن العاص يرفع يديه يدعو حتى يحاذى منكبيه ظاهرهما يليانه‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ إذا أشار أحدكم بأصبع واحدة فهو الإخلاص، وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه، وظاهرهما يلى وجهه فهو الابتهال‏.‏

واحتجوا بحديث أبى موسى وابن عمر وأنس‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه فى الدعاء حتى يرى بياض إبطيه‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب أن يقال إن كل هذه الآثار المروية عن النبى صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعانى، وللعمل بكل ذلك وجه صحيح، فأمّا الدعاء بالإشارة بالأصبع الواحدة، فكما قال ابن عباس أنه الإخلاص، والدعاء بسط اليدين، والابتهال رفعهما، وقد حدثنى محمد بن خالد بن خراش قال‏:‏ حدثنى مسلم عن عمر بن نبهان، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ ‏(‏رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وبباطنهما‏)‏‏.‏

وجائز أن يكون ذلك كان من النبى لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس، وجائز أن يكون إعلامًا منه بسعة الأمر فى ذلك، وأن لهم فعل أى ذلك شاءوا فى حال دعائهم، غير أن أحبّ الأمر فى ذلك إلىّ أن يكون اختلاف هيئة الداعى على قدر اختلاف حاجته، وأما الاستعاذة والاستجارة، فأحب الهيئات إلى فيهما هيئة المبتهل؛ لأنها أشبه بهيئة المستخبر، وقد قال شهر بن حوشب‏:‏ المسألة ببطن الكفين، والتعوذ مثل التكبير إذا افتتح الصلاة‏.‏

فإن قال‏:‏ فقد جعلت للداعى رفع يديه فى كل حال فما أنت قائل فيما روى يزيد بن زريع، حدثنا سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، أن أنس بن مالك حدثه‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا عند الاستسقاء، فأنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه‏.‏

قيل‏:‏ قد روى ابن جريج، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا ترفع الأيدى إلا فى سبعة مواطن فى بدء الصلاة، وإذا رأيت البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين‏)‏‏.‏

وهذا مخالف لحديث سعيد بن أبى عروبة عن قتادة، وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم رفع الأيدى فى الدعاء مطلقًا من وجوه‏.‏

منها‏:‏ حديث أبى موسى وابن عمر وأنس من طرق أثبت من حديث سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن أنس، وذلك أن سعيد بن أبى عروبة كان قد تغير عقله وحاله فى آخر عمره، وقد خالفه شعبة قى روايته عن قتادة، عن أنس فقال فيه‏:‏ ‏(‏كان رسول الله يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه‏)‏‏.‏

ولا شك أن شعبة أثبت من سعيد بن أبى عروبة‏.‏

وحدثنا ابن المثنى قال‏:‏ حدثنا ابن أبى عدى عن جعفر بن ميمون صاحب الأنماط عن أبى عثمان، عن سلمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن ربكم حيى كريم يستحى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد روى عن عطاء وجابر وطاوس ومجاهد أنهم كرهوا رفع الأيدى فى دبر الصلاة قائمًا‏.‏

قيل‏:‏ يمكن أن يكون ذلك إذا لم ينزل بالمسلمين نازلة يحتاجوا معها إلى الاستعانة إلى الله تعالى بالتضرع والاستكانة، فالقول كما قال عطاء وطاوس ومجاهد، وإن نزلت بهم نازلة احتاجوا معها إلى الاستعانة إلى الله بالتضرع والاستكانة لكشفها عنهم، فرفع الأيدى عند مالك حسن وجميل‏.‏

باب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ

- فيه‏:‏ أَنَس، بَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

الدعاء حسن كيفما تيسر للمؤمنين على جميع أحوالهم، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏ فمدحهم الله تعالى ولم يشترط فى ذلك حالةً دون حالة، ولذلك دعا النبى صلى الله عليه وسلم فى خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة‏.‏

باب الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِى، فَدَعَا وَاسْتَسْقَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ليس فى هذا الحديث الدعاء إلا قبل استقبال النبى صلى الله عليه وسلم القبلة لقوله‏:‏ ‏(‏فدعا ثم استقبل القبلة‏)‏ فكيف ترجم له باب الدعاء مستقبل القبلة‏؟‏ قيل‏:‏ إنما أشار البخارى إلى الحديث ليدل على المعنى المعروف منه، فقد جاء هذا الحديث فى كتاب الاستسقاء فى باب كيف حوّل النبى صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس، وقال فيه‏:‏ ‏(‏واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما‏)‏‏.‏

باب دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ وَكَثْرَةِ مَالِهِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَتْ أُمِّى للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ خَادِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ‏)‏‏.‏

وترجم له بعد هذا باب الدعاء وكثرة المال مع البركة، وباب الدعاء بكثرة الولد مع البركة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ كيف ترجم البخارى فى هذا الحديث باب دعوة النبى صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر، وإنما فى الحديث ‏(‏اللهم أكثر ماله وولده‏)‏‏.‏

وليس فيه وطول عمره‏؟‏ قيل‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك من دليل الحديث من موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن دعوته صلى الله عليه وسلم له بكثرة الولد يدل على أن ذلك لا يكون إلا فى كثير من السنين، فدعاؤه له بكثرة الولد دعاء له بطول العمر، والثانى‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وبارك له فيما أعطيته‏)‏، فالعمر مما أعطاه الله هذا الوجه للمهلب‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى دعائه له بطول العمر، وقد علم صلى الله عليه وسلم أن الآجال لا يزاد فيها ولا ينقص منها على ما كتب فى بطن أمّه‏؟‏ قيل‏:‏ معنى ذلك والله أعلم أن الله تعالى يكتب أجل عبده إن أطاع الله واتقاه فيكون عمره مدة كذا، فإن لم يطع الله وعصاه كان أجله أقل منها‏.‏

يدل على صحة ذلك قوله عز وجل فى قصة نوح حين قال لقومه‏:‏ ‏(‏اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 3، 4‏]‏، يريد أجلاً قد قضى به لكم إن أطعتم، فإن عصيتم لم يؤخركم إلى ذلك الأجل، وكل قد سبق فى علم الله مقدار أجله على ما يكون من فعله، قال ابن قتيبة‏:‏ ومثله ما روي أن الصدقة تدفع القضاء المبرم، وأن الدعاء يدفع البلاء، وقد ثبت أنه لا راد لقضاء الله، ومعنى ذلك أن المرء قد يستحق بالذنوب قضاءً من العقوبة، فإن هو تصدّق دفع عن نفسه ما استحق من ذلك، يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏(‏إن صدقة السر تطفئ غضب الرب‏)‏ ألا ترى أن من غضبَ الله عليه قد تعرض لعقابه، فإذا زال ذلك الغضب بالصدقة زال العقاب، وكذلك الدعاء يرتفع إلى الله تعالى فيوافق البلاء نازلاً من السماء فيزيله ويصرفه، وكل ذلك قد جرى به القلم فى علم الله تعالى أنه إن تصدق أو دعا، صرف عنه غضب الله وبلاؤه، وفى هذا الحديث حجة لمن قال‏.‏

الغنى أفضل من الفقر، وهى مسألة اختلف الناس فيها قديمًا، وسيأتى الكلام فيها فى موضعها فى كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏